سورة إبراهيم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى ألبتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان.
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أشياء: أحدها: قوله: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِنًا} والمراد: مكة آمناً ذا أمن.
فإن قيل: أي فرق بين قوله: {اجعل هذا بلداً آمناً} [البقرة: 126] وبين قوله: {اجعل هذا البلد آمِنًا}.
قلنا: سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون، وفي الثاني: أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف، ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة.
وثانيها: قوله: {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرئ {واجنبنى} وفيه ثلاث لغات جنبه واجنبه وجنبه.
قال الفراء: أهل الحجاز يقول جنبني يجنبني بالتخفيف. وأهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره، وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الإشكال على هذه الآية من وجوه:
أحدها: أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمناً، وما قبل الله دعاءه، لأن جماعة خربوا الكعبة وأغاروا على مكة.
وثانيها: أن الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن ألبتة، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله أجنبني عن عبادة الأصنام.
وثالثها: أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه، ولأن كفار قريش كانوا من أولاده، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام.
فإن قالوا: إنهم ما كانوا أبناء إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه، والدعاء مخصوص بالأبناء، فنقول: فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه، وهم ما كانوا إلا إسماعيل وإسحاق، وهما كانا من أكابر الأنبياء وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم، فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء.
والجواب عن السؤال الأول من وجهين:
الأول: أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدعاء، والمراد منه: جعل تلك البلدة آمنة من الخراب.
والثاني: أن المراد جعل أهلها آمنين، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] أي أهل القرية، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين:
الوجه الأول: ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن، وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى مكة أمن، وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً، ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا بمكة، ويكونون مستوحشين عن الناس خارج مكة، فهذا النوع من الأمن حاصل في مكة فوجب حمل الدعاء عليه.
والوجه الثاني: أن يكون المراد من قوله: {اجعل هذا البلد آمِنًا} أي بالأمر والحكم بجعله آمناً وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة.
والجواب: عن السؤال الثاني قال الزجاج: معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال: {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] أي ثبتنا على الإسلام.
ولقائل أن يقول السؤال باق لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال والصحيح عندي في الجواب وجهان:
الأول: أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضماً للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب.
والثاني: أن الصوفية يقولون: إن الشرك نوعان: شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون، وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله: {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي والله أعلم بمراده.
والجواب عن السؤال الثالث من وجوه:
الأول: قال صاحب الكشاف: قوله: {وبني} أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله: {واجنبنى}.
والثاني: قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم.
الثالث: قال مجاهد: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنماً، والصنم هو التمثال المصور ما ليس بمصور فهو وثن. وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجاراً مخصوصة وأشجاراً مخصوصة، وهذا الجواب ليس بقوي، لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والحجر كالصنم في ذلك.
الرابع: أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنّي} وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى لنوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} [هود: 46].
والخامس: لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام، ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بقوله: {واجنبنى وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} على أن الكفر والإيمان من الله تعالى، وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى، وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد، لأنه عدول عن الظاهر، ولأنا قد ذكرنا وجوهاً كثيرة في إفساد هذا التأويل.
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس} واتفق كل الفرق على أن قوله: {أَضْلَلْنَ} مجاز لأنها جمادات، والجماد لا يفعل شيئاً ألبتة، إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها.
ثم قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني، أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته، والدليل عليه أن قوله: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول: أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك، والأول باطل من وجهين:
الأول: أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} وأيضاً قوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم باصلاح مهماته.
والثاني: أن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، ولما بطل هذا ثبت أن قوله: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار.
وإذا ثبت هذا فنقول: تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة، والأول والثاني باطلان لأن قوله: {وَمَنْ عَصَانِي} اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلم لوجوه:
الأول: أنه لا قائل بالفرق.
والثاني: وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل لمحمد صلى الله عليه وسلم لكان ذلك نقصاناً في حق محمد عليه السلام.
والثالث: أن محمداً صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} فهذا وجه قريب في إثبات الشفاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر، والله أعلم.
إذا عرفت هذا فلنذكر أقوال المفسرين: قال السدي معناه: ومن عصاني ثم تاب، وقيل: إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك، وقيل من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم، يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة.
واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة.
أما الأول: وهو حمل هذه الشفاعة على المعصية بشرط التوبة فقد أبطلناه.
وأما الثاني: وهو قوله إن هذه الشفاعة إنما كانت قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك فنقول: هذا أيضاً بعيد، لأنا بينا أن مقدمة هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أن يكون مراد إبراهيم عليه السلام من هذا الدعاء هو الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر.
وأما الثالث: وهو قوله المراد من كونه: {غَفُوراً رَّحِيماً} أن ينقله من الكفر إلى الإيمان فهو أيضاً بعيد، لأن المغفرة والرحمة مشعرة بإسقاط العقاب ولا إشعار فيهما بالنقل من صفة الكفر إلى صفة الإيمان، والله أعلم.
وأما الرابع: وهو أن تحمل المغفرة والرحمة على تعجيل العقاب أو ترك تعجيل الإمانة فنقول هذا باطل، لأن كفار زماننا هذا أكثر منهم ولم يعاجلهم الله تعالى بالعقاب ولا بالموت مع أن أهل الإسلام متفقون على أنهم ليسوا مغفورين ولا مرحومين فبطل تفسير المغفرة والرحمة على ترك تعجيل العقاب بهذا الوجه وظهر بما ذكرنا صحة ما قررناه من الدليل، والله أعلم.


{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}
اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أموراً سبعة.
المطلوب الأول: طلب من الله نعمة الأمان وهو قوله: {رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا} [البقرة: 126] والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به، وسئل بعض العلماء الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد.
والمطلوب الثاني: أن يرزقه الله التوحيد، ويصونه عن الشرك، وهو قوله: {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35].
والمطلوب الثالث: قوله: {رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} فقوله: {مِن ذُرّيَّتِي} أي بعض ذريتي وهو إسماعيل ومن ولد منه {بِوَادٍ} هو وادي مكة {غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} أي ليس فيه شيء من زرع، كقوله: {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} [الزمر: 28] بمعنى لا يحصل فيه اعوجاج عند بيتك المحرم، وذكروا في تسميته المحرم وجوها: الأول: أن الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرماً لمكانه.
الثاني: أنه كان لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب.
الثالث: سمي محرماً لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه.
الرابع: أنه حرم على الطوفان أي امتنع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستعل عليه.
الخامس: أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل.
السادس: حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض وحفه بسبعة من الملائكة، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم، فرفع إلى السماء السابعة.
السابع: حرم على عباده أن يقربوه بالدماء والأقذار وغيرها: روي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت له إسماعيل عليه السلام، فقالت سارة: كنت أرجو أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وقالت لإبراهيم: أبعدهما مني فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع، ثم رجع فقالت هاجر: إلى من تكلنا؟ فقال إلى الله. ثم دعا الله تعالى بقوله: {رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ} إلى آخر الآية ثم إنها عطشت وعطش الصبي فانتهت بالصبي إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً ثم إن إبراهيم عليه السلام عاد بعد كبر إسماعيل واشتغل هو مع إسماعيل برفع قواعد البيت.
قال القاضي: أكثر الأمور المذكورة في هذه الحكاية بعيدة لأنه لا يجوز لإبراهيم عليه السلام أن ينقل ولده إلى حيث لا طعام ولا ماء مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا: إن الله أعلمه أنه يحصل هناك ماء وطعام، وأقول: أما ظهور ماء زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصاً لإسماعيل عليه السلام، لأن ذلك عندنا جائز خلافاً للمعتزلة وعند المعتزلة أنه معجزة لإبراهيم عليه السلام.
ثم قال: {رَّبَّنَا لِيُقيمُواْ الصَّلاةَ} واللام متعلقة بأسكنت أي أسكنت قوماً من ذريتي، وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة.
ثم قال: {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} وفيه مباحث:
البحث الأول: قال الأصمعي هوى يهوي هوياً بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل. وقيل: {تَهْوِي إِلَيْهِمْ} تريدهم، وقيل: تسرع إليهم. وقيل: تنحط إليهم وتنحدر إليهم وتنزل، يقال: هوى الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب، وهوى الرجل إذا انحدر من رأس الجبل.
البحث الثاني: أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا.
أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى.
وأما الدنيا: فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات، فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم، ويكثر طعامهم ولباسهم.
البحث الثالث: كلمة {مِنْ} في قوله: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} تفيد التبعيض، والمعنى: فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم.
قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند.
وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى المجوس، ولكنه قال: {أَفْئِدَةً مّنَ الناس} فهم المسلمون.
ثم قال: {وارزقهم مّنَ الثمرات} وفيه بحثان:
البحث الأول: أنه لم يقل: وارزقهم الثمرات، بل قال: {وارزقهم مّنَ الثمرات} وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم.
البحث الثاني: يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات وإنما يكون المراد: عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها.
ثم قال: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات.
المطلوب الرابع: قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ}.
واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم، ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل، وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها، فقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل: ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل: ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا؟ فقال إلى الله أكلكم، قالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم: قالت إذن لا نخشى.
ثم قال: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيء فَى الأرض وَلاَ فِي السماء} وفيه قولان:
أحدهما: أنه كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النحل: 34] والثاني: أنه من كلام إبراهيم عليه السلام يعني وما يخفي على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان، ولفظ من يفيد الاستغراق كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما.
ثم قال: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} وفيه مباحث:
البحث الأول: اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى إبراهيم عليه السلام هذين الولدين أعني إسماعيل وإسحاق على الكبر والشيخوخة، فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعاً وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ولد له إسماعيل لأربع وستين سنة وولد إسحاق لتسعين سنة، وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر قوله: {عَلَى الكبر} لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم، من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم.
فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسماعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد له إسحاق فكيف يمكنه أن يقول: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق}.
قلنا قال القاضي: هذا الدليل يقتضي أن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء. ويمكن أيضاً أن يقال: إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق وإن كان ظاهر الروايات بخلافه.
البحث الثاني: على في قوله: {عَلَى الكبر} بمعنى مع كقول الشاعر:
إني على ما ترين من كبري *** أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال ومعناه: وهب لي في حال الكبر.
البحث الثالث: في المناسبة بين قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيء فَى الأرض وَلاَ فِي السمآء} وبين قوله: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب، بل قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم قال: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} وذلك يدل ظاهراً على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه السلام حاكياً عن ربه أنه قال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ثم قال: {إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعآء}.
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال: {إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعاء} أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح وقوله: سميع الدعاء. من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه سمع الله لمن حمده.
المطلوب الخامس: قوله: {رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرّيَتِى} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذا الآية على أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى فقالوا إن قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} يدل على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله وقوله: {رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرّيَتِى} يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله، وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أن الكل من الله.
المسألة الثانية: تقدير الآية: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي. أي واجعل بعض ذريتي كذلك لأن كلمة من في قوله: {وَمِن ذُرّيَتِى} للتبعيض، وإنما ذكر هذا التبعيض لأنه علم باعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته جمع من الكفار وذلك قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين}.
المطلوب السادس: أنه عليه السلام لما دعا الله في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} وقال ابن عباس: يريد عبادتي بدليل قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48].
المطلوب السابع: قوله: {رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة الذنب فهذا يدل على أنه كان قد صدر الذنب عنه وإن كان قاطعاً بأن الله يغفر له فكيف طلب تحصيل ما كان قاطعاً بحصوله؟
والجواب: المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته.
المسألة الثانية: إن قال قائل كيف جاز أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟
فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن المنع منه لا يعلم إلا بالتوقيف فلعله لم يجد منه منعاً فظن كونه حائزاً.
الثاني: أراد بوالديه آدم وحواء.
الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً ولو لم يكن لبطل قوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] وقال بعضهم: كانت أمه مؤمنة، ولهذا السبب خص أباه بالذكر في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]، والله أعلم وفي قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} قولان: الأول: يقوم أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها، ونظيره قوله ترجلت الشمس، أي أشرقت وثبت ضوءها كأنها قامت على رجل.
الثاني: أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز مثل قوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] أي أهلها، والله أعلم.


{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}
اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة، وما يدل على صفة يوم القيامة، أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم، لزم أن يكون إما غافلاً عن ذلك الظالم أو عاجزاً عن الإنتقام، أو كان راضياً بذلك الظلم، ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالاً على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم.
فإن قيل: كيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة؟
والجواب من وجوه:
الأول: المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً، كقوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14]. {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ} [القصص: 88] وكقوله: {يا أيها الذين آمنوا}.
والثاني: أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الإنتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالاً.
والثالث: أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير.
الرابع: أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمة، وعن سفيان بن عيينة: أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات.
الصفة الأولى: أنه تشخص فيه الأبصار. يقال: شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة.
والصفة الثانية: قوله: {مُهْطِعِينَ} وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة:
القول الأول: قال أبو عبيدة هو الإسراع. يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع وعلى هذا الوجه، فالمعنى: أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد، فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين، أي مسرعين نحو ذلك البلاء.
القول الثاني: في الإهطاع قال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع.
والقول الثالث: المهطع الساكت.
والقول الرابع: قال الليث: يقال للرجل إذا قر وذل أهطع.
الصفة الثالثة: قوله: {مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ} والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع، فقوله: {مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ} أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه، فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم.
الصفة الرابعة: قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص، فقوله: {تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} لا يفيد كون هذا الشخوص دائماً وقوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} يفيد دوام هذا الشخوص، وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم.
الصفة الخامسة: قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفاً فقيل: قلب فلان هواء إذا كان خالياً لا قوة فيه، والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور، لكثرة ما فيه من الحزن، إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا في وقت حصولها فقيل: إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب، وقيل: إنها تحصل عندما يتميز فريق عن فريق، والسعداء يذهبون إلى الجنة، والأشقياء إلى النار. وقيل: بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور، والأول أولى للدليل الذي ذكرناه، والله أعلم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9